الاربعاء 4 فبراير :كنت مازلت مشغولا بالكمادات على عينى فى الصباح الباكر عندما سمعت ان ( هنرى هوبكنسون ) ( ضابط الاتصال السياسى بالسفارة البريطانيه فى القاهره وقتها ) جاء يحمل رسالة عاجلة ، طلب ان يصعد الى فى غرفة النوم ، ابلغنى ان ( حسنين ) اتصل تليفونيا وطلب ان يرانى بأسرع مايمكن ، لأن لديه رسالة يريد ابلاغها لى ، وحين عرف اننى مازلت فى غرفة النوم ابدى رغبته فى ان يذهب ( هوبكنسون ) اليه فى مكتبه ليتلقى منه الرسالة ، وقد رد عليه ( هوبكنسون ) بأنه سيصعد الى غرفتى ويعود الى فى هذا الشأن ، ثم يرد عليه ، قلت لهوبكنسون ( اننى لا اوافق لأن الوقت تأخر وهم يحاولون المماطلة ) .
فى الساعة العاشرة كان على ان احضر اجتماع لجنة الحرب ( فى مقر وزير الدولة البريطانى المقيم ومكتبه فى ذلك الوقت 10 شارع الطلمبات – جاردن سيتى ) ، فى السيارة كان معى الملحق العسكرى بالسفارة ، فى الطريق قلت له ( ان هناك وسيلتين للتصرف فى ازمة من هذا النوع ، اما ان تعالج الامور سياسيا بحزم وهذا ماافعله ، واما ان تتولى جماعته اى العسكريون حل العقده ، وهذا مااحاول تجنبة ) .
عندما وصلت الى الاجتماع كان الكل حول المائده ، شرحت للكل ولأوليفر ( اوليفر ليتلتون الوزير البريطانى المقيم فى الشرق الاوسط ) تطورات الاحداث حتى هذه اللحظه ، وقلت اننى اريد ان اعرف منهم تصورهم للمهلة التى يجب ان اعطيها للملك نهائيا حتى يستدعى ( النحاس ) لتشكيل الوزارة ، كانت المناقشة مفيدة واتفقنا على ان ابلغ ( حسنين ) رسالة بالموعد ، ولم اجد مبررا لكى اذهب اليه او يجىء لى ، فأتصل به ( حسنين ) تليفونيا وامليت عليه نصا مكتوبا وافق عليه الجميع وكان النص كما يلى :
" اذا لم اسمع قبل السادسة مساء اليوم ان ( النحاس ) دعى لتشكيل حكومة ، فأن صاحب الجلالة الملك ( فاروق ) عليه ان يتحمل العواقب " ، ولم اترك لحسنين فرصة لمناقشة ماتلقاه منى ، واكملنا اجتماع لجنة الحرب ، فقد كانت امامنا ترتيبات كثيرة عند الساعة السادسة مساء فى حالة ما اذا تأخر الملك فى الاستجابة لطلباتنا .
واستدعينا الجنرال ( ستون ) ( رئيس البعثه العسكرية البريطانية فى الجيش المصرى ) كان ( ستون ) يطلب وقتا ، وكذلك اتفقنا على ان نبدأ التحرك الساعة الثامنة مساء ، فى ذلك الوقت على ان اذهب انا يرافقنى الجنرال ( ستون ) الى قصر عابدين لأبلاغ الملك ان عليه ان يتنازل عن العرش ، ولكى نحول دون حدوث اى قلاقل كان لابد ان تسبقنا قوة عسكرية مسلحة تحيط بالقصر قبل ان نصل اليه انا والجنرال ( ستون ) وكنا جميعا على اتفاق بأنه لايجب ان اخرج من القصر الا وفى جيبى ورقة من اثنتين كلتاهما بأمضاء ( فاروق ) " واحدة عليها تنازله عن العرش اذا عاند ، والثانية عليها تكليفه للنحاس اذا قرر ان يطيع " .
وناقشنا اين يذهب فى حالة مااذا تنازل عن العرش واستقر رأينا فى البداية على انه يمكن نقله الى احدى سفن اسطولنا فى الاسكندرية ( وبعدها كان الترتيب ارساله الى المنفى فى كندا ) وكان القصد من كندا اعطائه فرصه لقطع الوقت بالتزلج على الجليد لان تلك كانت رياضته المفضلة ) .
تركت قاعة الاجتماع الى مكتب اخر مجاور ، واستدعيت ( فيتز باتريك ) ( قائد بوليس القاهرة ) ، وطلبت منه ان ينسق على الفور مع الجنرال ( ستون ) ، كذلك اتصلت بوالتر مونكتون ( مساعد وزير الدولة المقيم وهو خبير مرموق فى الشئون الدستورية ) ، وقد اعتبرت ان وجود ( مونكتون ) مصادفة سعيده فى مصر فى ذلك الوقت ، لأنه هو الرجل الذى كتب وثيقة تنازل ( ادوارد الثامن ) عن العرش لكى يتزوج من عشيقته ( واليس سمبسون ) ( التى اصبحت فيما بعد دوقة وندسور بعد ان تنازل ( ادوارد ) عن العرش مفضلا الغرام على الملك ) .
عدت الى السفارة الساعة 12.30 بعد الظهر ، استدعيت ( حسنين ) لمقابلة قصيرة جدا ، اعدت عليه مرة اخرى نصر ما سبق وابلغته به ، وكتبه مرة اخرى ، وقلت له انه ليس عندى مااضيفة الى هذا النص الذى ارجو ان يقنع الملك ( فاروق ) بأنه الضوء الاحمر هذه المرة ، واننى بكل مالدى من وسائل الاقناع اريد ان احذر الملك فأنا اتوقع ان اتلقى منه ردا يستجيب لما طلبت فى الموعد المحدد ولا فسوف تحدث اشياء things will happen .
رأيت مناسبا ان اتأكد من موقف النحاس ، ولانى افهم انه يصعب العثور عليه فى بعض الاوقات ، فقد اردت ان اعرف اين سيكون فى حالة ما اذا دعاه الملك او احتجت انا اليه ، ابلغت ( امين عثمان ) بما حدث مع (حسنين ) وانه من المهم ان يكون ( النحاس ) موجودا حيث يمكن الاتصال به ، ابلغته ايضا اننى اتمنى ان يكون ( النحاس ) عند موقفه ، قال لى امين ان ( النحاس ) نفسه قال له قبل قليل ( انه يتمنى ان لانغير نحن رأينا ) .
وقال امين انه لم ير ( النحاس ) مصمما كما يراه الان ، قال لى ( امين ) ان ( مكرم ) ( مكرم عبيد سكرتير الوفد فى ذلك الوقت ) دعى للقصر .
قلت لأمين اننى ارجو ان لايكون مكرم تراوده امكانية التخاذل الان ، وقد اقتربنا من ساعة الصفر ، قال ( امين ) انه سوف يبقى مع ( النحاس ) بنفسه طوال بعد الظهر .
لكى اكمل السجل فى هذه اليوميات اضيف اننى تلقيت برقية من وزارة الخارجية تصدق على كل الترتيبات التى اتخذتها .
4 فبراير بعد الظهر:
على الغذاء تلقيت معلومات بأن طلبة جامعة الازهر خرجوا فى مظاهرة تنادى ( يحيا روميل ويسقط الانجليز ) وتلك بالتأكيد من نتائج تحريض ( المراغى ) ( الشيخ مصطفى المراغى شيخ الازهر ، وكانت السفارة تتهمه بأنه احد الاعمده الكبيرة التى يستند عليها القصر ) ، تلقيت ايضا معلومات بأن هناك اضطرابات فى الزقازيق ، كان معى على الغذاء عدد من الضيوف بينهم الجنرال السير ( كلود اوكنليك ) ( القائد العام للقوات البريطانية فى مصر ) وقد ناولته ورقة المعلومات التى وصلت الى عبر المائدة ، بعد الغذاء ابلغنى ( امين ) ان ( النحاس ) وصلته معلومات مؤكده بأن الملك يحزم حقائبه ، ثم عاد ( امين ) فأبلغنى ان ( النحاس ) دعى الى مقابلة الملك بعد الظهر .
تأكدت من جميع الترتيبات العسكرية لانى لااستطيع ان استبعد اقدام الملك على حماقة .
الساعة 5.45 لم تصلنى اية اشارة من القصر ، وارسلت الى وزارة الخارجية ابلغهم اننى الان ماض فى تنفيذ خطتى .
الساعة 6 مساء جائتنى رسالة تليفونية من ( تيمور بك ) ( اسماعيل تيمور بك التشريفاتى الاول فى قصر عابدين ) الذى ابلغنى ان ( حسنين ) فى طريقة الى ، ووصل ( حسنين ) فعلا الساعة 6.15 ومعه رسالة من الملك نصها كما يلى :
" عندما تلقى الملك الانذار البريطانى دعا الى القصر فورا الساسه المرفقة اسماؤهم بهذه الرسالة وهم قادة كل الاحزاب السياسية ، وبينهم ( النحاس ) وعرض عليهم خطورة الموقف ، واتفق رأيهم جميعا على صيغة رد طلبوا ابلاغها لى ، وكان نص الرد يقول :
" ان الانذار البريطانى الموجه الى جلالة ملك مصر يمثل خرقا لمعاهدة الصداقة والتحالف بين البلدين ، ولهذا السبب وبناء على نصيحة الزعماء السياسيين ، فأن جلالة ملك مصر لايستطيع قبول هذا الخرق لأستقلال بلاده " .
نظرت الى ( حسنين ) وقلت له هذا كلام بالغ الخطورة ، وسوف اجىء الى القصر لأبلغ الملك ردى عليه بنفسى فى الساعة التاسعة مساء ، وبدا الذهول على وجه ( حسنين ) وسألنى " الا يمكن سير مايلز لك ولى ان نجد حلا لهذه المشكلة ؟ " ثم استطرد ولم اقاطعه عامدا حتى اسمع مالديه قائلا : " اننا نحتاج الان الى حل لأنقاذ ماء الوجه ، واذا ماوافقت على تشكيل حكومة محايده فهو ( حسنين ) على استعداد ان يقسم لى بشرفه انه فى اقل من شهرين سوف تكون فى البلد حكومة وفدية " .
قلت لحسنين : " اننى حاولت مرات من قبل ان اتعاون معه ، لكنى اخشى ان يكون مايقترحه الان مستحيلا بالنسبة لى " .
دعوت لجنة الطوارىء للاجتماع ، وبينما نحن مجتمعون وصل ( امين عثمان ) للسفارة ، ذهبت لمقابلته فى غرفة مجاورة ، سألته على الفور : " هل وضع ( النحاس ) توقيعه حقا على رد الزعماء السياسيين الذى جاء به ( حسنين ) ؟ ، واذا كان ذلك فكيف يمكن تفسير تصرفه ؟ " اكد لى ( امين ) اننى لايجب ان اهتم بأى شىء الا بتأكيداته هو لى بأسم ( النحاس ) .
اضاف ( امين عثمان ) انه يستطيع ان يراهن الى اخر دولار عنده ( ! ) بأن ( النحاس ) متمسك بما اتفق عليه معى ، وكذلك عدت الى غرفة الاجتماع وطلبت اعداد نص بالكلام الذى اوجهه الى الملك ( فاروق ) عندما التقيه فى المساء ، واتفقنا على نصين :
* النص الاول فيه مااقوله للملك .
* والنص الثانى وثيقة تنازل الملك عن العرش .
النص الاول يقول :
( خلال السنوات الاخيرة تأكد لنا انكم تحت تأثير بعض مستشاريكم ، لم تكونوا مخلصين للحلف ولبريطانيا العظمى ، وانما على العكس من ذلك عرقلتم جهودهم بما يساعد خصومهم .
ان الاتجاه العام ومايصاحبه من ظواهر تؤكد لنا قيامكم بخرق معاهدة التحالف مع بريطانيا بمقتضى المادة الخامسة التى تفرض عليكم الا تقوموا بأيه اتصالات مع اى بلد معاد للحلفاء .
ان جلالتكم فوق ذلك وعن تعمد وبدون داع طلبتم من الحكومة السابقة الرجوع عن قرار اتخذته بمقتضى البند الخامس من المعاهدة ( بطرد المسيو " بوتزى " الوزير المفوض الفرنسى فى القاهرة ) .
واخيرا فأنكم فشلتم فى تأمين قيام حكومة وحدة وطنية ورفضتم ان تعهدوا بالسلطة الى رئيس الحزب الذى يحظى بالاغلبية الشعبيه فى البلد والذى يستطيع وحده تأمين التنفيذ الدقيق للمعاهدة بالروح التى وضعت بها النصوص ، ومثل هذه التصرفات الطائشه وغير المسئولة من جانبكم تعرض امن مصر وامن القوات الحليفة فيها للخطر ، وهنا فأنهم يعلنون لكم انكم لم تعودوا جديرين بالجلوس على العرش ) .
واما النص الثانى ( وثيقة التنازل عن العرش ) فقد كانت على النحو التالى :
" نحن ( فاروق ) الاول ملك مصر تقديرا منا لمصالح بلدنا فأننا هنا نتنازل عن العرش ونتخلى عن اى حق فيه لأنفسنا ولذريتنا ، ونتنازل عن كل الحقوق والامتيازات والصلاحيات التى كانت عندنا بحكم الجلوس على العرش ، ونحن هنا ايضا نحل رعايانا من يمين الولاء لشخصنا "
صدر فى قصر عابدين فى هذا اليوم الرابع من فبراير 1942 .
توقيع " فاروق "
طلبت من وزير الدولة ( اوليفر ليتلتون ) ان يبقى على العشاء ومعه قرينته الليدى ( مويرا ) ، رحنا نناقش مانحن مقبلون عليه ، وكان يرى انه حتى ( النحاس ) رجل مذبذب فى موقفه ، والدليل على ذلك توقيعه على عريضة الزعماء التى ايدوا فيها الملك واتهمونا بالتدخل فى شئون مصر عدوانا على المعاهدة ، وهنا كان رأيه ( وزير الدولة اوليفر ليتلتون ) بعد نقاش طويل ( انه اذا تراجع الولد "the boy " واستسلم للانذار فلا داعى لوضع وثيقة التنازل امامه ) .
قبل ان اخرج من السفاره استدعيت ( امين ) لمقابلة اخيرة اريد ان اتأكد فيها من ان كل شىء يسير على نحو مااريد ، قلت له اننى اتوقع مايلى :
1- ان ( النحاس ) سوف يؤلف وزارة وفدية اذا دعاه الملك ( فاروق ) وطلب منه .
2- انه اذا تنازل الملك عن العرش فأن ( النحاس ) سوف يؤلف الوزاره وينهض بالمسئوليه بطلب منا .
تحركت من السفارة الساعة 8.40 متوجها نحو قصر عابدين ، كان معى الجنرال ( ستون ) وكنت اعرف ان هناك قوة من المدرعات سبقتنا الى حصار القصر ، وكان معنا عدد من السيارات مشت خلفنا ومجموعة من الضباط يمثلون كل اسلحة الجيش البريطانى وفروعه ترافقنا .
فى الطريق رويت للجنرال ( ستون ) مااقترحه وزير الدولة ( اوليفر ليتلتون ) على العشاء ، وابدى الجنرال ( ستون ) انه يوافق بلا تردد على انه ( اذا تراجع الولد فليس لنا ان نجبره على التنازل عن العرش والا وضعنا انفسنا فى مربع الخطأ ) .
وهكذا وصلنا الى القصر ، ولان هذه المقابلة مهمه فأنى اخصص لها فى هذه اليوميات صفحات مستقلة .